الرئيسية / مقالات / أفكار قتلت أصحابها .. للكاتب الأستاذ رائد البغلي

أفكار قتلت أصحابها .. للكاتب الأستاذ رائد البغلي

يَخالُ الكثير من الناس أن الكلمات والأفكار لا تعدو عن كونها وسائل لترجمة الحالة الثقافية والفكرية والإبداعية التي تعتري أي كاتب أو مثقف أو عالِم، وفي مواضع أخرى تكون تعبيرًا عن الحالة الترَفيَّة أو النُخبويَّة لمن يتعاطون مع الثقافة والفكر على أنهما حالات ترفٍ وبهرجةٍ، لكن عندما ينمو إلى عِلم هؤلاء أحيانًا أنَّ لتلك الكلمات والأفكار ثمنًا باهظًا يدفعه أصحابها، وقد يكون هذا الثمن حياتهم أو حياة أعزُّ ما لديهم، حينها سيرتطمون بكتلةٍ من الذهول والدهشة، فهي فكرة صادمة في مُجمَلِها وعصيَّة على التصديق مهما تكرَّرت، وقد يعتبرها العقل ضربًا من ضروب الخيال ما لم يقف على تفاصيل إحداها.
حين التطرُّق للكلمات والأفكار التي أودَتْ بحياة أصحابها لا بد أنْ تقفز إلى الأذهان عدَّة شخصيات، من بينها غسَّان كنفاني الروائي والصحفي الفلسطيني الشهير في القرن العشرين الذي كتب بشكلٍ أساسيٍّ في مواضيع التحرير الفلسطيني، وأُغتِيلَ في الثامن من يوليو عام 1972 م في بيروت بعد انفجار عبوَّةٍ ناسفةٍ وُضِعتْ في سيارته.
ويتسلَّل أيضًا هنا ذكر رسَّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ويعتبر من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملوا على ريادة التغيير السياسي بسطوة الفن. حادثة اغتياله يكتنفها الغموض حتى الساعة، فقد أطلق شابٌ مجهول النار عليه في 22 يوليو 1987 م بلندن وأصابه تحت عينه اليُمنى، ومكثَ في غيبوبةٍ حتى وفاته في 29 أغسطس 1987 م ودُفِن في لندن.
وفي ذات السياق، يجدر تناول الشاعر الكويتي فائق عبدالجليل الذي رفض النزوح عن الكويت إبَّان الغزو العراقي الغاشم عام 1990 م وبقي وحيدًا حتى تم أسره من قوات الاحتلال في الثالث من يناير 1991 م بعد أن تفشَّى أمر ضلوعه في إنتاج وترويج أغنيات وطنية تحضُّ الكويتيين على الإباء والصمود إزاء الغزو، وعُثِرَ على رُفاته في إحدى المقابر الجماعية للأسرى الكويتيين في العراق، حيث أُعدِم برصاصة غدر في الرأس ودُفِن في الكويت في 20 يونيو 2006 م.
وبالمناسبة، أذكر هنا الكاتب والمفكر المصري د.فرج فودة الذي أثارتْ كتاباته ومناظراته – التي كانت تدعو للعلمانية – جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية والثقافية المصرية، ما جعل جبهة علماء الأزهر تشنُّ هجومًا لاذعًا عليه، بل وأصدرتْ بياناً بكُفرِه، وفي 8 يونيو 1992 م أُغتِيلَ أمام الجمعية المصرية للتنوير التي أسَّسها. وأعلن قاتل فودة أنه قتله بسبب فتوى مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المُرتَد، فلما سُئِلَ في التحقيقات من أيِّ كتبه عرف أنه مُرتَد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب، لكنه تلقَّى تكليفًا بقتله من أحد قياديي الجماعة الإسلامية آنذاك!
هناك مَنْ يُنافح عن أفكارٍ لإيمانه بصحتها ولقناعته بجدواها، بصرف النظر عن كونها تخصَّه أو لا تخصَّه، فهو يُقاتل للذَّودِ عن ذات الفكرة وليس عن صاحبها أو أصحابها، وعلى الضِفَّة الأخرى، هناك مَنْ يُنافح عن أفكارٍ فقط لأنها تعنيه أو تعني التيَّار أو الجماعة التي ينتمي إليها، بصرف النظر عن صحتها أو نفعها.
فهنا أديبٌ ومُفكِّرٌ وعالمٌ، وهناك إرهابيٌّ ومُتطرِّفٌ ومُفسِدٌ، وجميعهم يشتركون بكلّ ذخيرتهم وكامل عتادهم في معركة الذَودِ عن أفكارهم التي يُلَوِّحون بها في الأُفُق، وهم في قُرارة أنفسهم يعلمون أنهم قد يُقدّمون حياتهم في أيِّ لحظةٍ لقاء فكرة يعتنقونها ويروّجون لها، ومع ذلك هم دائبون في نهجهم دون تحييد.
قد نجد مُسوِّغًا – تحت أي غطاء – للفئة (س) والفئة (ص) في حروبهم الضارية لأجل أفكارهم ومعتقداتهم رغم تباينها ليس لأننا نقول بصحة أفكار هذه أو صحة أفكار تلك، بل لأنَّ كل فئة تقول بصحة أفكارها، وإلا لما اعتنقتها بيقين وذادَتْ عنها بثبات وقدّمت أرواحها فداءً لها إن استدعى الأمر.
لكن كيف نعثر على مسوِّغٍ لفئةٍ تعيش بجهلٍ وتقتلُ بجهلٍ ثم تموت قُربانًا لجهلها، هذا النوع يسهل تنازله عن عقله، ومن ثَمَّ يسهل اقتياده وإذعانه لأيّ أمر، فيقتل ليس ذودًا عن فكرة أو منافحةً عن مبدأ، أو لأنه يريد أن يقتل، بل يقتل لأن أحدهم قال له أُقتُل، وقد يكون المقابل حَفنةً من المال، أو صكُّ غُفرانٍ يُخوِّله دخول جنةٍ مُترَعةٍ بحورٍ عين.

الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *