الرئيسية / مقالات / يوتوبيا

يوتوبيا

في رواية «يوتوبيا» الصادرة عام 2008 م، يقفزُ بِنَا الأديب والطبيب المصري الراحل أحمد خالد توفيق إلى حوافِّ المُستقبل، وتحديدًا إلى العام 2023 م لنستشرِف التغيُّرات المُخيفة التي ستعصف بالمجتمع المصري آنذاك، وتُسهِم في تغيير تركيبته الديموغرافية، وكذلك انشطاره إلى طبقتين رئيستين: الأولى فاحشة الثراء تعيش في مدينةٍ أسماها «يوتوبيا» مُحاطةٌ بأسوارٍ مُرتفعةٍ وتحفّها حِراسة مُشَدَّدة مِنْ قوَّات المارينز الأميركية وتقع على الساحل الشمالي، والثانية مُدقِعَة الفقر وتعيش في عشوائيات «شُبرا»، ويتقاتل أفرادها من أجل الزَّاد.
«يوتوبيا» كما تَصَوَّرَها الكاتب هي المدينة المُنعَزِلة التي كوَّنها الأثرياء ليَحتموا خلف أسوارها الشاهقة من طوفان الفقر الغاضب بالخارج، وليُخفوا ملامح حياتهم، وأسرار عبثهم عن رصد أعين المُعدَمين أو «الأغيار» كما أَطلَقَ عليهم.
يساوِرُ الأثرياء هنا هاجس الهرب للمطار لو أنَّ الفقراء بالخارج قد ثاروا في أي وقت، لأن الرحلة للمطار خارج «يوتوبيا» ستكون محفوفةً بالمخاطر، لذا قرَّروا بناء مطاراتهم إلى جوارهم على سبيل الأمان وكذلك البذَخ.
أبدع الكاتب في رسم شخصية (راسِم) الذي تدور حوله مُعظَم أحداث الرواية وهو الابن الوحيد لأكبر تاجر للأدوية في البلد. (راسِم) الذي جرَّبَ كل شيءٍ في حياته حتى تحوَّل كل شيءٍ في نظره إلى لا شيء، فأخذ يبحثُ عن شغفٍ جديدٍ يكسر حاجز الرتابة ويُزجي عَجَلة الوقت خلاف مُمارسة الجنس التي أصبحت روتينًا مُمِلًا، وتعاطي المخدرات الذي فقد اثارته بسبب وفرتها، وشرب كميات الكحول الذي فقد وهجه بسبب التشبُّع منها، حتى لو كان خلف هذا الشغف جرائم اختطافٍ تنتهي بالقتل مثلًا.
فهواية صيد البشر – كما يُطلَقُ عليها هنا – احدى الهوايات الماتعة التي يسعى من خلالها (راسِم) للتمرُّد على النمطية ويعتبرها الشباب ضربًا من الرجولة. فقد اختَطَفَ أحد الفقراء العاطلين وجَلَبَه إلى «يوتوبيا» وقام هو ورفاقه بملاحقته بالسيارات ثم قتلوه واحتفظ (راسِم) بيده المبتورة بعد أن قام بتحنيطها على سبيل التفاخر.
(يَعبُر) الكاتب الأنيق أحمد خالد توفيق بخِفَّة على ألغام «يوتوبيا»، (فيُعَبِّر) ببراعة عن التباينات بين الناس هنا والناس في الخارج والتي تَنطلِق بانطلاق صرخاتهم الأولى في هذه الحياة بدايةً باختيار الأسماء، فنجد هنا «جرمينال» و«لارين» و«كاتي»، ونجد هناك «نبوية» و«باتعة» و«زكية»، ولا تنتهي هذه التباينات حتى بنهاية الحياة، إِذْ يعتقد (راسِم) أنَّ في الموتِ أيضًا يجب أنْ تكونَ لهم طريقتهم المختلفة، يجب أن يكون موتهم أنيقًا ومسرحيًا، وليس كموت «الأغيار» الذي يكون عادةً في هيئة انتحار أو حادثة انقلاب سيارة في الترعة، فإذا كان الموت نَحبًا لا مَفَرّ منه، فليمُت الآخرون حتى تراهم وهم يموتون بدلًا من أن يرَوك هم.
من المقارنات اللافتة التي تعقدها الرواية: «العَدَم» الذي يُقابله «البَذَخ»، ففي الوقت الذي يتضوِّر فيه «الأغيار» جوعًا في الخارج، فإن الناس هنا يتبضّعون بشكلٍ يومي، ليس بدافع الحاجة، بل بدافع المَلل الذي يدفعهم في نهاية المَطاف للتخلُّص من تلك المشتريات عبر أقرب حاوية قمامة.
في «يوتوبيا» لا أحد بحاجة للسرقة، لكنهم بحاجة إلى الاثارة والمتعة الناتجة عن السرقة، حيث إن معظم جرائم السرقة بسبب داء «الولع بالسرقة».
يَثِبُ الكاتبُ بحثًا عن قواسم مشتركة ليكتشف أنَّ الفقراء وأبناء الأكابر يبدون متشابهين في حالةٍ واحدةٍ أو اثنتين فقط: عندما تراهم في الظلام من طائرة مُحلِّقةٍ في الأعلى، وفي اقبالهم الكثيف أيضًا على مشاهدة أفلام العنف والجريمة، لكن لدوافع مُختلفة. حُب العنف هُنا سببه الملل، وحب العنف هُناك سببه الفقر والقهر المكبوت.
في النهاية، تشعر عزيزي القارئ أنَّ «يوتوبيا» هي الخيالُ المُستَمَدُّ مِن الواقع، والمُستقبَلُ المُختَطَفُ مِن الحاضر. في كل مكان قد تجد «يوتوبيا» و«أغيار»، في هذه الرقعة تجد أناسًا تتسابق على الرخاء، وفي تلك الرقعة تجدُ أناسًا تتصارع على البقاء وبين الرخاء والبقاء مسافة طويلة لا تُقدَّر بزمن ولا ثمن.

الكاتب سعودي الأستاذ: رائد البغلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *