الرئيسية / مقالات / الانطباع الأخير

الانطباع الأخير

قد تُقرِّرُ زيارة مكانٍ هُنَا أو أنْ تُسَافِرَ لِدَولةٍ هُنَاك وأنتَ مَسكونٌ بِانطباعِ أحدهم، وتكون رَهينًا لِهَذا الانطِبَاع مِنْ حَيثُ لا تَشعُر، فترى بِعَينِ صَاحِبِه وتَسمَع بِأُذُنِه، ويكون قرارك امتداداً لقراره. عندما نَعقِدُ مُقَارَنَةً سَرِيعَةً بين الأماكن التي نَرْتَادُها لأوَّل مَرةٍ ونحن نَحْمَلُ انطِبَاعاتِ أشخاصٍ آخرين، وبين الأماكن التي نزورها للمَرَّةِ الأولى أيضًا دون أنْ نَحمِل أيّ انطِبَاعٍ عنها، فإننا مع الأولى نَجِدُ أنَّ الأماكن قد خَضَعَتْ في دواخلنا لِتَصنيفاتٍ ذهنيةٍ سَبَقَتْ وصولنا إليها وتعرّفنا عليها، لأن الانطباع المُسْبَقِ يُهيمنُ علينا ولم نستطع التَحَرُّر مِنْ سَطْوَتِهِ والخُرُوجِ مِنْ دَائِرةِ تَأثِيرهِ، أمَّا مَع الثانية، فَنَصِلُ خالين مِنْ أيِّ انطِبَاع، مَا يَجْعَلنُا نَتَحصَّل على انطباعاتٍ ذاتيةٍ مِنْ جَانب، وموضوعيةٍ مِنْ جانبٍ آخَر.
أحيانًا، انطِبَاعُ الآخَرِينَ عنَّا يُشكِّل هاجسًا كبيرًا يؤثِّرُ على نَمَطِ حياتنا، ووَجَلاً عظيمًا يَجْنُحُ بِبَوصَلَةِ قراراتنا، ويَغْدو اهتمامنا بِما سيقوله الناس عَنَّا أكبر بكثير مِنْ اهتِمَامنا بِما سنقوله نحن عن أنفسنا، فنُمْسي حينها أَسْرَى لآرائهم، وفي تَرَقُّبٍ دَائِمٍ لِسَيْلِ كَلِمَاتِهِم.
ربما يكونُ اهتمامنا البَالِغ بِانطِبَاعَات الآخَرِين إزَاءَنَا نَابعًا مِنْ اعتِقَادِنَا بِشَغَفِهِم بِنَا وفُضُولِهِم نَحْوَنَا، وهذا الاعتقاد بِحَدِّ ذَاتِهِ انطِبَاعٌ أوَّليٌّ لَنَا تِجَاهَهم، ما إنْ نُكَوِّنُهُ إلا ويَتَمَخَّضُ بَعْدَهُ انطِبَاعٌ أخيرٌ يُسهِمُ في انشطار ما سَبَقهُ وتشظِّيه وهو :أنَّ النَّاس مُنشَغِلون بأنفُسهم، ولا يعبأون بما يَصْدُرُ عنَّا، وأنَّنَا لا نُشكِّلُ لهُم رَقمًا يَدفعهم لإحصَائِه. قَد يَكُونُ هذا الانطِبَاع الأخير صادمًا مَنْ جَانِب، لكِنَّهُ مُريحٌ مِنْ جَوانِبَ عَدِيدَةٍ تَجعَلنا نَتَجَاوَز الجَانِبَ الصَادِم كي نَصِلَ للنّورِ في آخر النَفَقِ المُظلِم، ونَقرَعُ أجرَاسَ التَحَرُّر، وقَد يَكونُ الانطِبَاع الأول هو الانطِبَاع الأخير.
البَعضُ قَد يَبني انطِبَاعاتهِ مِنْ أفعالِك، وقَد يَكُون هِنْرِيك إبسِن منهم، إذ يقول: «ألف كلمة لن تترك انطباعًا عميقًا كعملٍ واحد»، بينما البعض الآخر قد يُكوِّن انطباعاته من كلامك. وبِحَسْب الدراسات والأبحاث، فإن 95 % يبنون انطباعهم خلال العشر إلى الأربعين ثانية الأولى من اللقاء الأول، وأنهم لا يَميلونَ إلى تغييره، بل ويجدون صُعُوبةً في تخطّي الانطباع الأول، إلا أنَّ ذلك لا يعني استحالته، في حين أنَّ إحدى التجارب العلمية تُقَوِّضُ ما سَبَق وتُحاوِلُ إثبات أنَّ العقل يحتفظ بالتجربة الأخيرة وغالبًا ينسِفُ ما قبلها.
الانطباع: شعور يطوّقك، وتصنيف يسكنك إزاء أحدهم. قد يسافر معك طويلًا، وقد تكتشف عكسه وسرعان ما ينجلي. قد يكون مُضَلِلًا ويأخُذُكَ إلى أبعدِ مسافةٍ عن الحقيقة، وقد يكون حقيقيًا ويَقتضِبُ عليك أقصَر مسافةٍ نَحوَ الحقيقة.

الكاتب السعودي الأستاذ: رائد البغلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *