الرئيسية / مقالات / أزمة المثقف بالعامي

أزمة المثقف بالعامي

عندما يُمارسُ المُثَقَّفُ طقسًا مِنْ طُقُوسِ النخبوية إزاءَ العامَّة فقد يكون هذا مُستسَاغًا وإنْ كانَ على مَضَضٍ، لكن قد ننطلقُ في إيجادنا للذريعة مِنْ قاعدةٍ قد يعتريها شيءٌ مِن المنطقيَّة، وهي أنَّ المُثَقَّف قد خَلَقَ بإسرافهِ في الاطِّلاع هُوَّةً غائرةً بينه وبين العامًّة، أو لربما نقرأُ الحدثَ قراءةً عكسيةً ونقول :أنَّ العامِّي هو مَنْ أوجَدَ «فَجْوَةً» تحوَّلَتْ بعد ذلكَ إلى «جَفْوَةٍ» بينه وبين المُثَقَّف بإهماله لجانب الاطِّلاع وتطوير الذات.
إنَّ فقدان لغة التخاطب بين المُثَقَّف وبقية أفراد مُجتَمَعِهِ يجعلهُ ينكفئ على ذاته ويعيش عُزْلَةً مُدْلَهِمَّة، قد تكون مؤقتةً وقد تتطور وتُصبِحُ دائمة. ويُمكن أنْ تُسمَّى بـ «غربة المُثَقَّف» إذا ما سَلَّمْنَا أنَّ الغُربَة لا تكون في الأرض وحَسْب، بل هناك غُربَةٌ في الفِكر قد يكون وَقعها في النَفْسِ أقسَى وأعتَى. فغُربة الأرض قد تنتهي بالعودةِ للوطن ،بَيْدَ أنَّ غُربَة الفِكر قد يعيشها الفرد وهو في وطنه، وفي أوساط أقرب المُقرَّبين منه! ،وقد تكون مقولة نعوم تشوميسكي :«المُثقَّفون لديهم مشكلة :عليهم تبرير وجودهم» جِسرًا يُعيدنا لِما سَبَق.
يُؤخَذُ على بعض المُثَقَّفين الخطاب الفائق النخبوية الذي يوجِّهونه للعامة، والذي يتجاوز أحيانًا حدود فحوى الخطاب كي يأخذ صفة الاستعراض. فحينما يُوظِّفُ المُثَقَّفُ في خطابهِ مفردات، مثل: الميتافيزيقا، الهرمنيوطيقا، والدوغماطيقية، وما شابهها من مفرداتٍ فَلسَفيَّةٍ مَحْضَةٍ لا يعرف معناها إلا مُثَقَّفٌ عَتيد، فيَخالُ المُتلقّي العادي أنهُ يقرأ كتابًا بصيَاغةٍ لا يفهمها، أو يُشَاهِدُ فيلمًا بِلُغَةٍ لا يَعرِفُها، وبالتالي سيُغلقُ آذانه ويُشِيحُ وجههُ عمَّا يُقال.
جديرٌ بالذِكر أنَّ مشاعر النخبوية إذا تَعاظَمَتْ في نَفْس المُثَقَّف فإنها توقعه –أحيانًا- في براثن النرجسية المُفرِطَة، والعُجْب الباذِخ، فيُمسي مُتأهِّبًا لرَفضِ أيِّ نَقدٍ كَبُرَ أم صَغُر، والاعتراض على أيِّ رأيٍ يتنافى مع أيِّ فكرةٍ يُطلِقُها أو مَقالٍ يَنشُرُه. وحيثُ أنَّ المقال يبدأ في مساحة الكاتب عندما يكون أسير الفكرة، وقيد الصياغة، ورهن الإضافة والحذف والتعديل، لكن ما إنْ يُطلَقُ في الفضاء الإلكتروني الرَّحْب ويُنشَرُ في عالَم الصَحَافة إلا وينتقل –وبشكلٍ تلقائيٍ- إلى مساحة القارئ، لأنه موَجَّه له ببساطة، وهو مَهدوفٌ بقراءته والتأثر به، وربما الرد عليه، وأحيانًا التفاعل معه بإعادة نشره. وإذا كان المُثَقَّف أو الكاتب سيمتعض من ردود الأفعال التي لا تتوافق مع توقعاته ولا تتماهى مع رغباته، فحريٌّ به أنْ يُبقي مقاله حبيسَ أدراجه حتى لا تقع عليه عينُ القارئ، ولا تُصَوِّبهُ سِهام الناقد.

الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

جريدة النهار الكويتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *