الرئيسية / مقالات / أجملُ مقالةٍ كتَبتُها!

أجملُ مقالةٍ كتَبتُها!

«أجملُ مقالة كتَبتُها» جملة كانت تقابل الكثير من المقالات التي أكتبها، كانت تصلني من زوجتي، أصدقائي، زملائي، ومتابعيَّ، وكانت تتركُ في داخلي أثرًا غائرًا وحبورًا طاغيًا.

عندما أكتبُ مقالة بديعة وأشعر أنها «أجمل مقالة كتبتها» – حسبما يصلني – فإنني أنظر لها بتمييز وأحيطها بهالةٍ من التقدير، وأعتبرها طفلًا مُدلَّلا يحظى برعايةٍ خاصةٍ بين أقرانهِ، كيف لا؟ وهي أجمل مقالة كتبتها، لكن ما إن أعود وأكتبُ مقالة ثانية أو ثالثة أو حتى عاشرة، إلا وتحظى بنفس الأصداء، وأسمع من القرّاء أنها أجمل مقالة كتبتها.

في الحقيقة هذا يشي بأمرٍ هامٍ وهو أنَّ مساحة الجمال شاسعة ولا حدود لها، فلا تظن أن حدود جمالك قد انتهتْ في مقالةٍ كتبتها، أو قصيدةٍ صِغتها، أو لوحةٍ رسمتها، فكل مرحلة تشعر أنها المُنتهى في إبداعك ستليها مرحلة أخرى ينتابك فيها ذات الشعور.

المقالة المميزة التي تعود بأصداءٍ واسعةٍ توقعني في أزمة المقالة التي تليها، فإما أن تكون أفضل منها أو بمستواها على أقل تقدير.

من جانبٍ آخر هناك مقالة أبذل فيها مجهودًا خارقًا، وبالتالي أتوقع أن تصلني عنها أصداءً واسعة، لكني أكتشفُ في النهايةِ أنها ليس بالضرورة أن تكون الأصداء موازية للجهد المبذول في المقالة، وعلى النقيض تمامًا، فهناك مقالة أكتبها دون عناءٍ يُذكَر، وأتراخى في عملية إرسالها للصحيفة وأُفاجأ بردود الأفعال التي تصلني عنها.

لازلتُ أتذكر بداياتي في عالم الكتابة عندما كنت أنشر في صفحات القرّاء، وأتذكر السعادة الغامرة التي استوطنتني حينما نُشِرت مقالتي الأولى في صحيفةٍ ورقية، وكانت صحيفة «الرياضي» عندما كان مقرَّها الدمام، قرأتُ المقالة مرارًا من فَرْط الفرحة وكأن كاتبها أحدٌ غيري، كانت حروفها على صدر الصفحة مغايرة عن حروفها أثناء كتابتها، مضيئة، ساطعة، ربما في عينيّ أنا فقط.

نَشْرُ المقالةِ الأولى كان بذرة كتابة المقالة الثانية، ونشرُ المقالة الثانية كان بذرة كتابة المقالة الثالثة، وهكذا، فالتحفيز وقود الإبداع، والثقة قنديل الإقدام.

ما ضاعف سعادتي هو تبوُّء العديد من مقالاتي –حينها- زاوية «المقالة الذهبية» في الصفحة التي كانت تُنشَر فيها، مازلت أدينُ بالفضل ِلتلك الصحيفة، فبنشرها لي في صفحة القرّاء غَرَسَتْ في داخلي قيمةً عالية، وهي أنني مشروع كاتب وأنَّ كتاباتي جديرة بالنشر منذ أن كنتُ هاويا، فلربما لو تجاهلَتْ كتاباتي التي كنتُ أبعثُ بها إليهم لتوقفتُ عن الكتابة منذ ذلك الحين، مَنْ يدري؟.

تلك المرحلة بقدر حلاوتها كانت صعوبتها، أتذكر كيف كنتُ أكتبُ المقالة في ورقةٍ بيضاء مُسطَّرةٍ بحذرٍ شديد خشية الوقوع في خطأ، لأن أي خطأ يعني إعادة كتابة المقالة من جديد، كنتُ أكتبُ بخطٍ ناعمٍ حتى أضمن بقدر الإمكان قُدرة المُحَرِّر على قراءته، ثم أراجع وأتفحَّصُ لمراتٍ عديدةٍ، وبعد أن أنتهي أدسُّ المقالة في ذلك الظرف الأبيض، ثم أهرع لمكتب البريد السعودي لإرسالها للصحيفة.

عندما أعود للبداية وأقرأ كتاباتي أشعر بمزيج من الخجل والاستغراب، وأتساءل: كيف كنتُ أكتبُ بهذه الطريقة؟ وكيف كنت أعتنق هذه الأفكار البسيطة؟ فهناك بونٌ عظيمٌ بين ما كنتُ أكتبه بالأمس وبين ما أنا أكتبه اليوم، ثم أستدرك وأعزو ذلك لنضج الأفكار وصقل الأسلوب والخبرة المتراكمة.

بقي عليَّ أن أعتذر من أولئك الأصدقاء الذين طلبوا مني أن أكتب عن أفكارهم وموضوعاتهم ولم أستطع، فلا أجيد الكتابة إلا عن الأفكار التي تلامسني من الداخل وأشعر بها، وإلا سأكتب موضوعات إسمنتية خالية من الشعور.

 

رأي الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

صحيفة الرأي السعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *