الرئيسية / مقالات / على «دَكَّةِ» الطوارئ

على «دَكَّةِ» الطوارئ

في نهاية الأسبوع المُنصَرِم، كنتُ في زيارةٍ لوالدتي الغالية، وخلال تلك الزيارة أحسَّتْ بإعياءٍ شديدٍ – فجأة – استدعى أَنْ أَقِلُّها إلى المُستشفى. وصلنا لقسم الطوارئ ولَمْ أَخِلْ أنني سأمضي في رحلةِ انتظارٍ طويلةٍ أجول فيها بين وجوه المَرضى الشاحبة التي يعلوها الألم.

كنتُ أقفُ على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، وأسترِقُ السمعَ لمعاناتهم وهم يروونها لبعضهم البعض على مقاعد الانتظار، أو عندما يبثُّونَ بها إلى المُمَرِّضَة على المكتب القابع في تلك الزاوية المُقابلة لنا قبل دخولهم إلى الطبيب المُناوِبْ.

هذا مريضٌ مُرتبِطٌ ارتباطًا وثيقًا بالمُستَشفَى وليس بوسعهِ أَنْ يبرح المدينة لا لسفرٍ ولا لعملٍ لأنه يغسلُ الكُلَى ثلاث مراتٍ أسبوعيًا، وذاك مريضٌ يعاني «الأنيميا المنجليَّة الوراثيّة» التي أنهكت جسده النَحيل وأثَّرَت حتى على نموِّه، وهُنا سَيِّدة ترزحُ على كُرسيٍّ مُتحرِّكٍ يدفع به ابنها بين دهاليز المستشفى بحثًا عن سريرٍ شاغر، وهُناك كهلٌ يتعكَّزُ بـ«مِنْسَأةٍ» تُعينه على الوقوف ويناشد موظف الاستقبال الدخول على الطبيب بأسرعِ وقت.

شعورك وأنتَ مُرْتَمٍ في أحضان ذلك الكُرسيّ الفولاذي الغليظ بين فَوجٍ مِنْ المَرضى لا يُشابِهه شعور. تارةً يأخذك مللُ الانتظار، وتارةً يُعيدك شغفُ السؤال. الساعة تمضي تِلوَ الساعة وأنتَ مُكبَّلٌ على مقعدك دون أدنى حِرَاك، ولو عادَ الأمرُ إليكَ لدَفَعْتَ عقاربها من فَرْطِ المَلَل وشِدَّة القلق.

كنتُ جالسًا على «دَكَّة» الطوارئ، وأرمقُ البوابة الرئيسية بشيءٍ مِنْ الوَجَل كلما سمعت صَفَّارة سيارة إسعافٍ قادمةٍ أو شعرتُ بوميضها عن بُعد. جوارحك كلها تتسابق لاقتحام هذه السيارة، والتعرُّف على الطقوس بداخلها، وتتقافز الأسئلة في ذهنك: مَنْ بداخلها؟ تعرفه أم لا تعرفه؟ مِمَ يشكو؟ وكيف هي حالته الآن؟ وكذلك الأمنيات والأدعية التي تتدافع حينئذٍ في داخلك: يا رب سترك، يا رب رحمتك، اللهم يَسِّر ولا تُعسِّر.

موظف الاستقبال فصلٌ آخر من فصول الحكاية. يُثقِلكَ بالحديثِ عن الحالات العصيَّة التي يستقبلها بشكلٍ يوميّ، بل ويُحرِّضكَ هذا الحديث للكتابة عنها.

علاقته الحميمة ببعض المرضى تجعل الدهشة ترتسم على وجهك، وتدفع بعَجَلة السؤال سريعًا: من أين نشأت هذه العلاقة؟ فتأتيك الإجابة المُكافِئة أسرَع: مِنْ المُرَاجعات الدائمة لقسم الطوارئ.

تفكيرك في المريض الذي برفقتك «يُثخِنُك» لكن لا يستلبك من التفكير في بقية المرضى الذين يملؤونك بحديثهم ويحاصرونك بأنينهم.

قد تدخل مِنْ بابٍ يوصلك إلى قلب المستشفى لكن قد تخرج بعدها من بابٍ يقذفُ بك إلى فضاء الحياة من جديد. تَتَحسَّسْ أجنحتك، وتجعل ثقتك في الريح فتُعاوِد التحليق مُجدَّدًا مُتخفِّفًا مِنْ أعبائك.

تُعِيدُ اكتشافَ النِعَم التي حباك الله بها، فتركل «الألم» الذي كان يسكنك ليتحوِّل إلى «أملٍ» يكتنفك.

رأي الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

صحيفة الرأي السعودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *