الرئيسية / مقالات / فوبيا الرياضيات!

فوبيا الرياضيات!

كلما تناولتُ كتابَيَّ الرياضيات لابنَيَّ «علي» و«عبدالعزيز» قذفَتني الذاكرة أميالًا للخلف وتلقَّفتني مقاعد الدراسة، وتذكَّرتُ خوفي وهَلَعي من تلك المادة، واستحضرتُ كيف كنتُ أحمل همَّها على عاتقي طيلة العام الدراسيّ وكيف كانت ترتعد فرائصي في كل اختبارٍ يواجهني أو أواجههُ لها.
لا أبالغ إن قلتُ إنني مع كل اختبار لمادة الرياضيات أشعر أنني أخوض معركةً ضاريةً، ولا أستكنُّ منها ولا أهدأ إلا بعد نهايتها والتي يعلنها قرْعُ الجرس أو مُراقب اللجنة بسحبه للأوراق، حينها أتنفَّسُ الصُعداء، ولا أفكِّر في ربحي أو خسارتي لهذه المعركة بقدر تفكيري في الخروج منها كيفما اتَفَق، فأنا بذلك أخرجُ من عنق الزجاجة حسبما كنتُ أظن.
من المواقف العصيَّة على النسيان عندما كنتُ في الصف الأول المتوسط، وقد شحذتُ هممي استعدادًا لخوض الاختبار النهائي للرياضيات، دخلنا القاعة، وتم توزيع أوراق الامتحان، ورغم أنَّ استعدادي للمادة آنذاك كان استعدادًا جادًا، لكن مِن فرط ذُعري شعرتُ أن الأسئلة الماثلة أمامي غريبة لمادّةٍ لم أدرسها ولم أذاكرها من قبل.
جلستُ مُتسمِّرًا وجسمي يتفصَّدُ عرقًا، وكتبت اسمي الثلاثي حتى أُقنِعُ نفسي أنَّني قُمتُ بعمل شيء، والمُراقِب الذي يذرع الفصل ذهابًا وجيئةً يرفع مستوى توتري بخطواته التي تشعرني أنها تُسابق عقارب الساعة في إنهاء الوقت المُخصَّص للاختبار، وكلما سألني: ما بك لا تُجيب عن الأسئلة؟ أحارُ بماذا أجيبه.
شعرتُ لوهلةٍ أنَّ خوفي من المادة قد هزم استعدادي لها، وأنَّ جلوسي على هذا المقعد اللعين مزيدًا من الوقت عبثًا لن يُجدي نفعًا، وبعد لحظات من التفكير والحيرة، بلغتُ غَيهَبَ اليأس، وقبل مضيّ نصف الوقت، قرَّرتُ الانسحاب دون أن أُفكِّر في تبِعات هذا القرار الغليظ، قرَّرتُ تسليم الورقة خاويةً إلا من اسمي، فلم أحلّ حتى سؤال واحد، وقبل أن أقوم حانقًا مُحَطَّمًا من مقعدي، قرَّرتُ أن أهدأ قليلًا بعدما أقنعتُ نفسي أنَّ هناك خطأ قد يستدعي التريُّث، فأنا ذاكرتُ المادة بشكلٍ مُكثَّفٍ، إذن ما المشكلة؟ قرَّرتُ التفتيش عن المشكلة كي أُوجِد لها حلًّا.
قرأتُ الأسئلة مُجدَّدًا بهدوءٍ ورويَّةٍ لأجدني أنتقلُ مِن حلِّ سؤالٍ لآخر بكلّ أريحية.
من بعد هذا الاختبار اكتشفتُ أنَّ المشكلة ليست في المادة وليست في مذاكرتي لها، بل في هَلَعي منها، ولعلّ قول شيرين سامي في روايتها «قيد الفراشة»: والخائف دائمًا يتعثّرُ فيما يُخيفه، ينطبق هنا.
بعد الذُعر والهَلَع من مادة الرياضيات، قادتني الأقدار لأن أتخصَّص في المحاسبة التجارية، وانغمستُ في الأرقام والقيود والقوائم المالية وموازين المراجعة، ثم درستُ تخصُّص إدارة الأعمال الذي اشتمل على أكثر من مستوى للرياضيات والإحصاء، وها أنا اليوم أعشق هذه المادة، وأستمتع بمذاكرتها وبطُرُقٍ مُبتَكَرة مع ابنَيَّ عليّ وعبدالعزيز، بل وأتقمَص دور المُعلِّم في المنزل، وأستعيد معهما ما فاتني من المادة في تلك الفترة، وبدورهما تعودا على شرحي، وأصبحا يعتمدان عليّ اعتمادًا كُلِّيَّا في مذاكرة هذه المادة تحديدًا.
ولا أعلم، هل عشقي الحالي لها نابع من إذابة أفكاري السالِفة أم نابع من عشقي لابنَيَّ ورغبتي في تفوقهما؟.

الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *