الرئيسية / مقالات / خِصْمٌ من الوزنِ الثقيلِ

خِصْمٌ من الوزنِ الثقيلِ

لم أكن لأعرِف المُهندِس حُسَين العبَّاد الذي واجه مرض سرطان العُقَد اللمفاوية لخمس مراتٍ وانتصر عليه، لولا عثوري – بمحض الصدفة – على محاضرته الشيقة في «YouTube» التي شارك بها في «TEDx» مَطلَع هذا العام في الأحساء، والتي كانت مُلهِمة للكثيرين، وخلّاقة للمُستسلمين.

تلقى نبأ إصابته بهدوءٍ تامٍ ودون جزع، ربما لفرط إيمانه أو ربما لقلِّة إدراكه، وبدأ رحلة التداوي «المُمِضَّة» بالعلاج الكيماوي والعمل الجراحي، واحتاج بعد ذلك لعملية أمضى بعدها شهرًا كاملًا في العزل الانفرادي لانخفاض مناعته.

كَرِه «حُسَين» عصير البرتقال الذي كان يُحبّه لأن الأكل الذي اعتاد عليه كان طعمه أشبه بِبُرادة الحديد كما يصف، وكَرِه رائحة عطره المُفضَّل لأن الرائحة التي كانت تُهيمنُ على المكان وتسكن أنفه هي رائحة المُعقّمات والمسحات الطبية.

في كل مرَّةٍ يحاول أن يَنكَبَّ على دروسه ويحلّ واجباته يتذكر أنه مريض سرطان، فيتساءل: ما فائدة الدراسة وأنا قد أموت في أي وقت؟ لكنه يعود فيستدرك ويستدعي فكرة المحاولة حتى وإن كانت لصيقةً بفكرة الموت في نظره.

أنهى دراسته الجامعية في تخصص الهندسة الكهربائية، ومثَّلَ السعوديةَ في أهم حدث على مُستوى الجامعة وفاز بالمركز الأول لثلاث مرات، عن أفضل جناح يُجسِّد ثقافة دولة من بين عشرين جناحًا، وقد كرَّمه على إثر ذلك السفير السعودي، واختارته إحدى الشركات الفرنسية الرائدة ضمن ثلاثة طُلاب لحضور ورش عملٍ في باريس.

حُكم الموت الاستباقي الذي أطلقه عليه المجتمع، لم يحرمه من وظيفة أحلامه وحسب، بل حرمه حتى من أن تكون له فتاة أحلام تشاركه حياته، فقد تقدَّم لأكثر من فتاة وكانت الأبواب مُؤصَدَة، لأنه في نظرهن شخص يشدد «حيازيمه» نحو الموت.

ما فتِئَ يحاول حتى عثر على الفتاة التي أعادته إلى خارطة العالم من جديد، لكن قبل موعد زواجه بستة أشهر باغته المرض للمرة الخامسة، ورغم كل محاولاته في الانفصال عنها إلا أنها تمسَّكتْ به وكانت حاضرة معه لكل موعد مستشفى منذ ارتباطهما.

فاطمة زوجته فصلٌ جميلٌ ومهمٌ من فصول حكايته، تقول «فاطمة»: عندما تقدَّم لي لم أُفكِّر بمرضه ولم أخشَ أن يعود له من جديد، وكنتُ أراهُ سليمًا، ولو عاد بي الزمان للوراء لاخترته من جديد.

ويقول حسين: بكيت أثناء مرضي مرَّتين، المرة الأولى في جَيْئَة المرض للمرة الخامسة تحديدًا، خشية فقدان الإنسانة التي آمَنَتْ وقبِلتْ ووَثَقَتْ، والمرة الثانية حينما سمعتُ من مسؤول توظيف الشركة عبارة: أنت لا تصلح مهندسًا ميدانيًا معنا.

اليوم يحتفلان بمضيّ خمس سنوات على اقترانهما، ويحتفلان أيضًا بمضيّ خمس سنوات على شفائه، وكأن ارتباطهما كان بداية حياة ونهاية معاناة، وكان النور في آخر النَفَق المُظلِم.

سافرَ بي بعيدًا دون أن أبرح مكاني، أخذني إلى حيثُ يريدُ هو لا حيثُ أريدُ أنا، جعلني أُحلِّق بلا أجنحة، وأهبط بلا مظلة. هبوطي كان بطيئًا جدًا، لأن عالم الأحلام بلا جاذبية. رأيته مُحاربًا ضاريًا، ورأيته على الطبيعة طَودًا «أشَمًّ» كان يُحدثني بثقةٍ وأرنو إليه بشغف، ويملؤني بطموحاته التي تمخُر عُبَاب البحر متجاوزةً كل الصعاب.

رأي الكاتب الأستاذ: رائد البغلي

صحيفة الرأي السعودي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *